الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.[سورة الأعراف: آية 45] {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)}وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجًا} [45] وهذه استعارة، فإن سبيل اللّه سبحانه: دينه. ومعنى ويبغونها عوجا أي يبتغون عنها المتحاول، ويطلبون منها الفسح والمخارج، ويوهمون بالشبهات أنها معوجة غير قويمة، ومضطربة غير مستقيمة..[سورة الأعراف: الآيات 53- 54] {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)}وقوله تعالى: {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} [53] وقد مضى نظير ذلك في أول السورة.وقوله سبحانه: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ} [54]. اهـ..فصل في التفسير الموضوعى للسورة كاملة: قال الشيخ محمد الغزالي:سورة الأعراف:بدأت سورة الأعراف بحديث مجمل عن قضيتين: الأولى تتصل بالقرآن الكريم. والثانية في المنكرين له والمكذبين جملة بالوحى الإلهى. في القضية الأولى نزل قوله تعالى: {كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين * اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء..} والحرج المنهى منه يجيء من سوء استقبال المشركين لمن يريد هدايتهم، وتزهيدهم في مواريثهم. والإنذار إعلام مع تخويف، والمطلوب من المستمعين عامة أن يتبعوا الكتاب الناصح لهم، ويهجروا ما عداه من تقاليد لا خير فيها، مهما كان مصدرها. فإن الأولياء المتبعين من دون الله لن يجيئوا بخير، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وقد تحدثت السورة بعدئذ عن الكتاب في جملة مواضع منها قوله تعالى: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون إلا تأويله...}. يعنى هل ينتظرون إلا أن يتحقق وعده ووعيده، فيظفر المؤمنون بالنصر والثواب، ويكتوى الكافرون بالهزيمة والعقاب؟. ومنها قوله تعالى: {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين}. وهذا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه أن الله يتولى نصره وحفظه حتى يبلغ ما نزل على قلبه، ويجعل الحياة تستضيء به وتسير بتوجيهه. ومنها قوله تعالى في ضرورة تدبر هذا الكتاب والانتفاع بما حوى من علوم: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}. فالكتاب ذكرى للمؤمنين ونماء لعقولهم ورحمة تهبط عليهم.أما القضية الثانية التي افتتحت بها السورة فهى تدرك من قوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون * فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين}. وهلاك القرى التي تمردت على المرسلين سنة وعاها التاريخ. وقد فصلت سورة الأعراف ما وقع لعاد وثمود ومدين، وقوم نوح وقوم لوط.. ويظهر أن الله سبحانه وتعالى أرسل الأنبياء الأولين لعرب الجزيرة شمالا وجنوبا، فلما كفر أولئك العرب وآذوا رسلهم دمر الله عليهم وأباد خضراءهم. ثم آتى موسى الكتاب ليهدى به مصر، وبنى إسرائيل، وشرح مواقف الفراعنة واليهود شرحا واسعا. فلما زاغوا عن الصراط ورفضوا هدايات الله أوقع بهم بطشه. ثم عاد الوحى الخاتم مرة أخرى إلى وسط الجزيرة، واستطاع محمد بفضل الله أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأن يجعل من العرب الذين اهتدوا به أمة وسطا ورثت الوحى إلى قيام الساعة ولا زال وحيها مصونا وكتابها قائما. وسيبقى البشر ما بقيت الحياة الدنيا مكلفين بسماع هذا الكتاب والاقتباس منه لأنه وحده الذي يقيهم السيئات. والمهم أن يقدر العرب رسالتهم، وأن يعرفوا نفاسة الميراث الذي اختصهم الله به عندما قال: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا...}. وأن يوقنوا بأنهم مساءلون عن موقفهم منه {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين}. وبين الله سبحانه في صدر السورة أن الحساب الجامع سوف يبت في مصير كل إنسان، {والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}. لكن هذا البيان الموجز أعقبه بعد قليل تفصيل كاشف عن مصاير الطوائف المختلفة التي اختصمت في ربها على صعيد الأرض.فهناك أولا المؤمنون، ثم أصحاب الأعراف ثم الكافرون. وقد جرى حوار بين هؤلاء وأولئك نرى أن نتوقف قليلا عنده. إن أهل الجنة يحيون في عالم من السماحة والحب والسلام، مشغولون بشيء واحد هو تسبيح الله وتحميده، وهم يشعرون بما أسدى الله إليهم من نعماء ويقولون {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}. إنهم- بإزاء ما رأوا من فضل- يجردون أنفسهم من كل استحقاق، ويشعرون كأن العطاء الأعلى هو الذي سبق بهم وأنا لهم تلك المكانة. وهنا يذكرهم الله بسعيهم القديم وجهدهم المقبول {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} وعندما ما يطمئنون إلى أحوالهم يتذكرون خصوم الأمس من الجبابرة والملاحدة فيحبون أن يعرفوا ما لاقوا {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين}. إن هؤلاء الظلمة كانوا ينكرون البعث والجزاء، وكانوا يبطشون بالمستضعفين من المؤمنين، وكانوا يشوهون معالم الحق ويغلقون طرقه، فها هم أولاء يجدون مصيرهم العدل.. واختصت هذه السورة بذكر أصحاب الأعراف، ومنهم أخذت اسمها. والشائع بين المفسرين أن هؤلاء قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فانتظروا حتى يبت الله في أمرهم! وأرى أن أصحاب الأعراف هم الدعاة والشهداء الذين بلغوا رسالات الأنبياء وقادوا الأمم إلى الخير!! فإن الأعراف هي القمم الرفيعة، ومنها سُمِّى عرف الديك عرفا... وهم في الآخرة يرقبون الجماهير والرؤساء في ساحة الحساب، ويلقون بالتحية أهل الجنة، وبالشماتة أهل النار. وحديث القرآن الكريم عنهم يرجح هذا الفهم فهم يتكلمون بثقة ويوبخون المذنبين على ما اقترفوا ويستعيذون بالله من مصيرهم..ومن المستبعد أن يكون ذلك موقف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم لا يدرون أين يذهب بهم؟. وهناك نداء أخير من أهل النار وهم يرسلون صراخ النجدة {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله..}. وهيهات فلن يجيرهم من الله أحد!! لقد كفروا بالله، وجحدوا لقاءه ولم يخطر ببالهم هذا اليوم ولا استعدوا له بشيء فمن أين تأتيهم النجدة؟. وهنا نذكر أن معاني القرآن متداخلة متضافرة تلتقى كلها في سياق واحد يعمل عمله في النفس، وليست هدايات القرآن فصولا مقسمة على نحو متميز. وهكذا العالم تراه مصدرا لأشتات العلوم وهو كيان واحد يستقى منه علماء الأحياء وعلماء طبقات الأرض وعلماء الفلك وعلماء القوى المحركة.. الخ. من لطائف التعبير أن يذكر بنو آدم في أول سورة الأعراف والمقصود أبوهم، وأن يذكر آدم نفسه في آخر السورة ويقصد بنوه! في أول السورة يقول تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم...}. وفى آخر السورة يقول الله جل شأنه في خطايا البشر وشركهم واعوجاج سيرهم {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها...}. ثم يقول: {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون}. وظاهر أن الذين اقترفوا جريمة الإشراك هم أبناء آدم الذين اضطربت عقولهم فزاغوا..!! والنظم القرآنى أولا وأخيرا يعنى البشرية جمعاء، ويذكر رسالة الإنسان التي كلف بها ولم يحسن أداءها... والإنسان مع الشيطان ليس مغلوبا على أمره، وإنما هو مخدوع كبير أو مستغفل غرير! إن الشيطان يملك جهاز إذاعة طويلة الأمواج أو قصيرتها، والإنسان يستطيع أن يسمع وألا يسمع.فمن ضبط جهاز استقباله على محطة إرسال معينة سمع ما يريد، وإلا فهو بمنجاة. ولا يملك الشيطان إلا قدرة البث ولا يقدر أبدا على تضليل إنسان بقوته!! والغريب أن الإنسان نسى ما وقع لأبيه عندما طرد من الجنة، ولا يبالى أن تتكرر المأساة لاسيما والشيطان قد أقسم على إذلال أبناء آدم جميعا. {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين..}. أما كان ينبغى أن نحذر هذا الحقد المبين؟. والأغرب أن تجئ خدعة آدم من حيلة مكشوفة لا تنطلى على ذكى يقظ! لقد قال إبليس له: إنك منعت من الشجرة حتى لا تكون ملكا!! وكان آدم قادرا على أن يقول له: إن الملائكة سجدت لى فكيف أهبط عن مكانتى؟ إن ما أنا فيه أفضل!! وأطمع إبليس آدم في الخلود إذا أكل من الشجرة!! ومن قال: إن آدم وبنيه ليسوا من الخالدين؟ حتى لو ماتوا، فالموت نقلة إلى حياة أقوى وأكبر!! إن الشيطان أفاك خداع، واللوم لا يوجه إليه، وإنما يوجه إلى من انخدع به... ومن وقع في مصيدته بهذا الشرك المكشوف...!! وفقد آدم ما كان فيه من النعيم، وهبط هو وزوجته إلى الأرض ليأكلوا بكد اليمين وعرق الجبين!! وتعرضت ذراريهم للتجربة الأولى والخدعة القديمة، ترى هل يعتبرون؟. {قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}. إلى وقت محدود وعمر معدود ثم ترجعون إلى الخالق الكبير ليسألكم عن حالكم في هذه الفترة أكنتم عبيدا له أم عبيدا للشيطان؟. {قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون}. وبعد هذا السرد لقصة آدم اتجه الحديث إلى أولاده على مر العصور فنودوا أربع مرات ليسمعوا نصائح ربهم وينجوا من كيد عدوهم! ونلحظ في هذه النصائح أنها حداء إلى الإنسانية الرفيعة أو إلى دين الفطرة!والمحزن أن عالمنا المعاصر مفتون بإنسانية هابطة آو علمانية تشده إلى التراب.وتربطه بنزعاته وقلما ترفعه إلى السماء، من حيث جاء. فلنتدبر هذه النداءات الأربعة: أولها يتصل بالملابس! لقد انفرد الإنسان دون سائر الحيوان بارتداء ثيابه، وحسنا فعل فهى تستر عورته وتزين هيئته.. وللناس في ملابسهم تجاوزات: فقد يختالون فيها ويستكبرون. وقد يزنون أنفسهم بقيمة ما يرتدون. وقد تقصر النساء ثيابها حتى لتكاد تكشف سؤاتها! وقد تضيقها وترققها حتى لتكاد تصف وتشف! وهذا كله لا يسوغ فإن شرف الإنسان ليس في ثوبه، وقيمته ليست فيما يرتديه. هناك ثوب آخر يكسو باطنه، ويبرز حقيقته هو ما سماه القرآن بلباس التقوى، وما عناه الشاعر بقوله:وقال شاعر آخر: يعنى أفضل لبس خلقات بالية وأكل لقيمات تافهة على أن أمد يدى إلى أحد لألبس الغالى {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون}. ونحن في تفسيرنا نربط بين هذا التذكر، وبين قول الله أول السورة {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون}. وقوله بعد ذلك {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون}. ما أكثر أسباب التذكر ولكن الإنسان ينسى! ويتكرر النداء {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة...} لا ينبغى أن يقع للأبناء ما وقع للأب من قبل!
|